بقلم الدكتورة أمنية السعيد محمد: الاستثمار الأسري!
أثمر ويثمر من الكلمات المحببة إلى النفس ومن الكلمات المباركة التي توارثتها جينات كل من كان له علاقة بالزرع والحرث! بل جينات البشرية بأكملها، فما كان للإنسان البدائي غير الاصطياد ثم الزراعة فالصناعة والتجارة؛ كما أن الصورة الذهنية للثمرة تجذب مشاعر النجاح والفلاح بصرف النظر عن نوع الثمرة والمدة التي استغرقتها لتصل لهذه النتيجة.
ولأول وهلة تأخذك كلمة (الاستثمار) إلى عالم المال والأعمال والاقتصاد! على الرغم من الشمول الدلالي الأعم لهذه الكلمة، حيث إن (استثمر) من الأفعال المتعدية وجذرها (ثمر) وفي لسان العرب: الثمر حمل الشجر، وأنواع المال والولد؛ وفي الحديث: إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون نعم : قيل للولد ثمرة.
وهي نظرة أحادية مجتمعيا فيما هو متعارف عليه؛ وهنا نطرح السؤال الآتي: هل نعتبر الأبوين أيضا ثمرة للأبناء؟ والإجابة (نعم) بدون أدنى شك؛ فعملية الاستثمار متبادلة بين الأجيال! فالحاصل من الثمرة المكسب والخير والبركة، وهو الحاصل من تربية الأبناء فكما قال سبحانه (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...) وهو الحاصل أيضا من رعاية الآباء وصلة الأرحام فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من سره أن يُبسط له في رزقه، أو يُنسأ له في أثره، فليصل رحمه) رواه البخاري.
والإنسان كائن اجتماعي، خلقنا الله في هذه الحياة لننسج صورة من التشارك والتعاون والاتفاق والاختلاف، صورة متعددة الألوان منها المتناسق ومنها المتنافر، شئنا أم أبينا، ويرحل من يرحل ويولد من يولد والصورة كما هي باقية إلى أن يأذن الله لها بالفناء! ومع هذا حفظ لنا الخالق سبحانه النموذج الأمثل للنجاح والفلاح في كل شئ، وضابط ذلك هو التمسك بالتعاليم الدينية والأخلاقية القويمة، ولكل منا حظه في هذا التمسك، فلسنا ملائكة ولا شياطين! بل نحن بشر.
وبصفتي البشرية كم كنت أعاتب وألوم بعض المقصرين في حقي فنحن في المجتمع بمثابة النسيج الواحد ثنائي التكوين من عناصر الحقوق والواجبات؛ وهذا اللوم والعتاب سابق الذكر كانت تتبعه الأحكام على الأشخاص! وهذا من أخطر ما يعكر صفو الحياة! فهذا حاقد، وهذا حاسد، وهذه تثير الوقيعة والفتنة وهذا وهذه وهؤلاء...
إلى أن استوقفتني الآية الكريمة في سورة الأنعام (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ...) بدأت في تدريب نفسي قدر الإمكان على التخلي عن هذا وهذه وهؤلاء ومقاصدهم ومشاكلهم والحكم عليهم! فهمت الجملة التي يكررها كثير من السلوكيين (انظر في ورقتك، ركز في امتحانك، ولا تنظر إلى ورقة غيرك) نصيحة غنية ومركزة وفريدة؛ فليت كل فرد في الأسرة ينظر إلى ورقته فقط ! لكن هيهات! فالرجل ينظر في ورقة زوجته أنت عليك من الواجبات كذا وكذا...! والزوجة تنظر في ورقة زوجها أنت عليك من الواجبات كذا وكذا! وينظر الجيل الحالي في ورقة الأجيال الغابرة كان على الآباء كذا وكذا ...! وينتقد الآباء الأبناء فهم دائما جيل الخير والبركة، والأبناء غالبا لا خير فيهم ولا بركة على حد تعبير كثير من الآباء! (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ...)
أين الوقت الذي يسمح بالبناء والتنمية ونحن لسنا هنا والآن؟! نتحسر على الماضي، ونحلم بالمستقبل الأفضل من دون خطوات جادة وفعالة! فمن أخطر العناصر المعرقلة في طريق الاستثمار العام؛ الضبابية الزمنية وقد جاء النهي عن ذلك في قوله تعالى في سورة الحديد (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) وهنا تكسر الآية الكريمة مفهوم التعلق، فما علينا إلا العمل فقط أما النتيجة فهي من الله وإليه! (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) فالعمل هو سبيل استقرار وازدهار الأسرة والمجتمع.